يبدو أن الجهود الدبلوماسية المصرية فيما يتعلق بالخلافات مع دول منابع النيل توجت ببعض النجاح ، حيث قرر المجلس الوزارى لدول حوض النيل في ختام اجتماعاته بأديس أبابا في 27 يونيو / حزيران برئاسة اصفاو دينجا ماو وزير الموارد المائية والرى الإثيوبى اختيار العاصمة الكينية نيروبى لعقد اجتماع استثنائى لوزراء المياه لدول حوض النيل العشر في شهر سبتمبر القادم لحسم نقاط الخلاف بين تلك الدول .
ولم يقف الأمر عند ما سبق ، حيث قرر المجلس الوزارى لدول حوض النيل أيضا اختيار الدكتور وائل محمد خيرى نائب رئيس قطاع مياه النيل المصرى مديرا تنفيذيا لسكرتارية مبادرة حوض النيل اعتبارا من ديسمبر/كانون الأول القادم ولمدة عامين .
وجاء في البيان الختامي لاجتماع أديس أبابا أن اختيار الدكتور وائل خيرى يأتي تقديرا لدور مصر الرائد في إفريقيا والمساهمة الفعالة بالخبرات الفنية والمادية في تنفيذ المشروعات المشتركة بدول حوض النيل في مجالات التنمية المختلفة وخاصة الاستغلال الأمثل لمياه النيل لصالح شعوب دول الحوض جميعا .
الفخ الإثيوبي
ورغم أن الدول الموقعة على اتفاقية عنتيبي رفضت مناقشة بنود الاتفاقية الإطارية التي بدأ التفاوض بشأنها قبل 10 سنوات وخاصة فيما يتعلق بنسبة تقاسم المياه وأصرت على الاتفاق الذي وقعته في مايو / أيار الماضي ورفضته مصر والسودان ، إلا أن إثيوبيا لم تنجح أيضا في إقناع الكونغو الديمقراطية وبوروندي بالتوقيع على اتفاقية عنتيبي وهو ما يعرقل جهودها لاعتمادها دوليا حيث يتطلب الأمر موافقة كافة دول المنبع .
ويبدو أن الاجتماع الاستثنائي في كينيا سيجد طريقا لحلحلة الخلافات في هذا الصدد ، خاصة وأن السودان قرر تجميد عضويته في مبادرة حوض النيل احتجاجا على رفض الدول الموقعة على اتفاقية عنتيبي التراجع عن موقفها ، فيما تمسكت مصر بموقفها الرافض لتلك الاتفاقية وأكدت أنها غير ملزمة لها .
وما يدعم ما سبق ، أنه لو أن الدول الخمس الموقعة على اتفاقية عنتيبي حسمت أمرها ما كانت لتوافق على الاجتماع الاستثنائي في كينيا ، بل وهناك من أشار إلى أنها تستخدم أسلوب المناورة لابتزاز مصر والحصول على مزيد من المساعدات المالية والاقتصادية وفي النهاية فإنها سترضخ للتفاوض لكي يتم إنجاز المشروعات المشتركة بين دول حوض النيل التي يمولها المانحون الدوليون .
ولعل تصريحات الدكتور محمد نصر الدين علام وزير الموارد المائية والرى المصري عقب الجلسة الختامية لاجتماع أديس أبابا تحمل بعض التفاؤل ، حيث أشاد بما شهده الاجتماع من مودة وشفافية في المناقشات والتى أسفرت عن التفاهم لعقد الاجتماع الاستثنائى في كينيا وبموافقة جميع وزراء دول الحوض .
وأكد علام أن سياسة مصر تعتمد على الحوار والتفاهم بين دول حوض النيل ومن خلال المبادرة التي بدأت منذ 10 سنوات للوصول إلى صيغة توافقية للمياه بدول الحوض ، كما أكد أن مبدأ مصر لم يتغير بشأن العلاقات مع دول الحوض بالرغم من انفراد عدد من دول المنبع فى توقيع اتفاقية جديدة لتقاسم المياه بشكل منفرد.
وكان علام شدد أمام اجتماع أديس أبابا على أن المشكلة لا تكمن في قلة أو ندرة المياه وإنما في عدم إدارتها بطريقة تكاملية ووجوب حسن استغلالها دون الإضرار بمصالح باقى الدول.
ويبدو أن مصر ستسرع من وتيرة تحركاتها الدبلوماسية قبل اجتماع نيروبي لحسم النقاط العالقة بين دولتي المصب من ناحية ودول المنبع من ناحية أخرى .
نقاط الخلاف
|
| |
| سد إثيوبي علي نهر النيل | | |
ومعروف أن الأمن المائى يعتبر من أبرز النقاط العالقة ، حيث تشكك دول المنبع في مشروعية اتفاقيات مياه النيل السابقة وتطالب بتغييرها نظرا لأنها أبرمت في الحقب الاستعمارية ، فيما تؤكد دولتا المصب مصر والسودان مشروعية تلك الاتفاقيات استنادا إلى مبدأين رئيسيين في القانون الدولى وهما مبدأ التوارث الدولى للمعاهدات ومبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة وعدم جواز المساس بهما وذلك حرصا على استقرار النظام الدولى.
وما يدعم وجهة نظر مصر والسودان أن تلك الحقوق تحفظها وتنظمها عدة معاهدات واتفاقيات مع دول الحوض ابتداء من اتفاقيتي 1902 و 1906 مع إثيوبيا ومرورا باتفاقية 1929 مع دول الحوض في البحيرات الاستوائية واتفاقية 1959 مع السودان وكانت جميعها تدور حول عدم إقامة أي مشروعات على مجرى النهر أو فروعه تقلل من نسبة تدفق المياه إلى مصر والسودان .
أما النقطة العالقة الثانية فهي شرط الإخطار المسبق عند القيام بمشروعات مائية قطرية أو جماعية أو فردية على مجرى الحوض المائي ، حيث ترى دول المنبع عدم التقيد بالإخطار المسبق كشرط سابق عن أي مشروعات مائية تعتزم إنشائها لأن ذلك يعوق مشروعاتها التنموية.
وفي المقابل , تصر مصر والسودان على ضرورة إعمال شرط الإخطار المسبق بشأن جميع المشروعات المائية إعمالا بمبدأ من مباديء القانون الدولى وهو "عدم التسبب فى الضرر".
وفيما يتعلق بالنقطة العالقة الثالثة فهي تتعلق بشرط الإجماع , حيث تسعى دول المنبع لتمرير اتفاق إطارى تعاونى جديد بغية إنشاء مفوضية دائمة لدول حوض النيل بغض النظر عن مشاركة دولتى المصب مصر والسودان وذلك عوضا عن الاتفاقيات القديمة لتوزيع مياه النيل مع فتح الباب لانضمامهما في المستقبل بحيث تستطيع الذهاب للدول المانحة لتمويل مشروعاتها النيلية والزراعية ، هذا فيما أعلنت مصر والسودان ضرورة التزام كل دول حوض النيل باحترام قاعدة التصويت بالإجماع عند نظر تعديل أى بند من البنود الأساسية لاتفاقية مبادرة دول حوض النيل أو الأغلبية بشرط أن تكون مصر والسودان ضمن أغلبية.
ورغم أن دول المنبع الخمس التي وقعت اتفاقية عنتيبي لم تنتظر لحين حسم النقاط السابقة في مفاوضات مبادرة دول حوض النيل التي بدأت قبل نحو عشر سنوات وكانت تهدف للوصول إلي طريقة أفضل لتقسيم مياه النيل في ظل الأخطار التي تواجه تلك الدول من التغير المناخي والتهديدات البيئية والتزايد السكاني ، إلا أنها لن تستطيع أيضا الاستفادة
من أموال المانحين الدوليين دون موافقة مصر والسودان .
فمعروف أن مبادرة دول حوض النيل وهي آلية مؤقتة كانت تأسست عام 1999 وتمثل الآلية التى تجمع كل دول الحوض تحت مظلة واحدة وتقوم على مبدأين وهما تحقيق المنفعة للجميع وأيضا عدم الضرر ، وتشارك في المبادرة عشر دول هي مصر والسودان وإثيوبيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية وبوروندى ورواندا وكينيا وتنزانيا إلى جانب إريتريا كمراقب.
ورغم أن دول المبادرة كانت بدأت مؤخرا مفاوضات حول توقيع اتفاقية إطارية جديدة ترسم الإطار المؤسسي والقانوني لتلك الآلية المؤقتة وتأخذ بالاعتبار مصالح دول المصب والمنبع على حد سواء ، إلا أن إسرائيل تدخلت على الخط عبر حليفتها إثيوبيا لمنع اتمام هذا الأمر .
ضياع 20 مليار دولار
|
| |
| خريطة دول حوض النيل | | |
ويحذر كثيرون من أن استمرار الانقسام بين دول المنبع من ناحية والمصب من ناحية أخرى سيضيع نحو 20 مليار دولار على دول حوض النيل وهو المبلغ الذي يخص المشروعات المشتركة التى ستمولها الجهات المانحة الدولية لخدمة شعوب دول حوض النيل وتحسين مستواهم المعيشى والخدمى وتنمية موارد نهر النيل .
وكانت الجهات المانحة لمبادرة حوض النيل أكدت مؤخرا ضرورة إقامة مفوضية تشمل جميع دول الحوض العشر باعتبارها الركيزة الأساسية لتوفير الرخاء والسلام والأمن لجميع شعوب دول الحوض ، وشددت في بيان لها صدر في إبريل / الماضي على أن الالتزام من جانبها بدعم مبادرة حوض النيل التى انطلقت عام 1999 بما يزيد عن 250 مليون دولار على هيئة منح وحوالي مليار دولار على هيئة قروض هو التزام كرد فعل لما أبدته دول حوض النيل مجتمعة من رغبة جادة للعمل معاً من أجل تحقيق التنمية المستدامة ومن خلال الاستخدام المنصف للمصادر المائية المتاحة بحوض النيل والانتفاع بها بصورة عادلة ، معتبرة أن إقامة مفوضية لحوض النيل تشمل جميع دول الحوض هو من الركائز الأساسية لتحقيق هذه الرؤية المشتركة.
وأوضحت الجهات المانحة أن قيام بعض الدول بتوقيع اتفاقية جديدة حول الإطار المؤسسى والقانونى لمبادرة حوض النيل وإقامة المفوضية العليا بدون دول حوض النيل كاملة لن يتيح تحقيق المنافع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المرجوة من المبادرة ، وذلك في انتقاد ضمني لاتفاقية عنتيبي .
وأرست الجهات المانحة لمبادرة حوض النيل في بيانها خمسة مبادئ أساسية تعبر عن وجهة نظرها لاستمرار الدعم والمساندة لبرامج التعاون المستقبلي على مستوى الحوض .
ويتمثل المبدأ الأول في أن وجود اتفاقية غير شاملة لكل دول حوض النيل ستؤدي إلى عدم تحقيق الرؤية المشتركة المنشودة مع فقدان تام للمكاسب التي حققتها أطراف المبادرة طوال السنوات العشر الماضية .
وأشار المبدأ الثانى إلى أن الحاجة لتحقيق المفهوم الشامل لتدفقات نهر النيل وإحلالها محل وجهات النظر التاريخية تستوجب إجراء دراسات تحليلية توضح أن المياه بحوض النيل كافية للاحتياجات المستقبلية لكل دولة دون إحداث أية أضرار بالدول الأخرى وذلك إذا ما تمت إدارة الحوض بطريقة تعاونية متكاملة.
وأوضح المبدأ الثالث أن المنافع المستدامة التي يمكن تحقيقها يجب أن تكون من خلال إطار تعاوني يجمع الدول العشر ، وتمثل المبدأ الرابع فى أن وجود مفوضية لحوض النيل تشترك في إنشائها جميع دوله من شأنه أن يوفر برامج وخطط تنموية لمياه النيل بطريقة منصفة وعادلة لجميع دول الحوض مع ضمان التأكيد على عدم حدوث أضرار لأية دولة من تلك الدول.
والمبدأ الخامس والأخير أشار إلى أن الجهات المانحة لمبادرة حوض النيل مستعدة لتقديم الدعم لتحقيق ما تقدم من أهداف بما يمهد الطريق لتنمية واسعة النطاق لجميع دول حوض نهر النيل.
والجهات المانحة هي : الوكالة الكندية للتنمية الدولية ، وكالة التنمية الألمانية ، وزارة الخارجية الدانماركية ، وزارة الخارجية الهولندية ، هيئة التنمية الدولية السويدية ، البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ، الاتحاد الأوروبي ، الوكالة الفرنسية للتنمية ، وزارة الخارجية الفنلندية ، وزارة الخارجية النرويجية ، المؤسسة الإنجليزية للتنمية الدولية ، الولايات المتحدة الأمريكية ، البنك الدولي.
واللافت للانتباه أن المباديء الخمسة التي تتبناها الجهات المانحة هي ما نادت به مصر دائماً وعملت على تحقيقه للحفاظ على الحقوق المصرية التاريخية في مياه النيل ، بالإضافة إلى تحقيق المصالح المشتركة لدول حوض النيل ، ولذا فإنه لا بديل أمام الموقعين على اتفاقية عنتيبي سوى الابتعاد عن الأجندة الصهيونية والجلوس مجددا على مائدة الحوار لحل الخلافات العالقة .