قد شاء الله تعالى أن تمر العربية كغيرها من اللغات بمراحل ، فقد هذبتها الألسن العربية وطوّرتها طورا بعد طور إلى أن تهيأت لأن تكون وعاء لكلام الله عندما نزل بها القرآن على قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وقد كان العرب في ذلك الوقت على ذروة الفصاحة والبلاغة وكانت الجزيرة زاخرة بالجم الغفير من الخطباء والشعراء الذين يلقون الحديث العربي قصيده ورجزه ونثره ونظمه وهم يتبارون في هذا المضمار ويتفاخرون بالسبق إلى قصبات السبق فيه .
وقد كانوا يجتمعون في أسواقهم التي كانت تعقد في الحجاز من أجل هذا التباري وكانوا يتقنون التعبير ولا يحتاجون إلى وضع ضوابط لها لأنهم نشأوا عليها فهم يتقنونها بالسليقة وبالممارسة وما كانت تشوبهم عجمة في حديثهم ، فكان المخطئ منهم يعرف خطؤه بالبديهة . وعندما دخلتْ الشعوب في دين الله أفواجا احتاج الناس إلى ضوابط لهذه اللغة وذلك لسببين :
الأول: أن تلك الشعوب لم تكن عندها الملكة العربية التي كانت عند العرب.
الثاني : أن العرب أنفسهم شابتْ عربيتهم شوائب من العجمة بسبب الاخطلاط فاحتاجوا إلى وضع هذه االضوابط على أن معظم الأئمة الذين خدموا العربية وبحثوا فنونها وتعمقوا في دراسة إشتقاقاتها ووضعوا الضوابط لها هم من غير العرب كالأخفش وسيبويه والفراء والكسائي … وهم مع ذلك يفتخرون ويعتزون وكل ذلك من أجل خدمة القرآن ومن أجل الحفاظ على معرفة معانيه وإعجازه .
ولذلك فإنه من العار على المسلم أن يحسن اللغات الأجنبية ومن بينها لغات المستعمرين الذين استذلوه واستعبدوه ، وأنْ يفاخر بإتقانها وهو لا يتقن اللغة العربية .
والمسلمون هم أحوج الناس لهذا التواصل الحضاري من خلال التفاهم بهذه اللغة وهذا أمر مهيأ بدليل أن غير العرب يعتنون بهذه اللغة ويتفوقون على العرب فيها، من أمثلة ذلك أنه في بريطانيا نُظْمَتْ مسابقة شعرية باللغة العربية الفصحى ، واشترك فيها الكثير من الشعراء وكان الفائز الأول هو شاعر من سنغاليا بقصيدة له في مدح النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مطلعها :
هجرت بطاح مكة والهـضابا
وودعت المنازل والرحابا
اتخذت من الدجى يا بدر سترا
ومن رهبوت حلكته ثيابا
وهذا الشاعر مسلم غير عربي ولكن القرآن جعله يعتني بالعربية .
فنحن يجب أن نكون أحرص الناس على العربية لأنها لغتنا ولأنها لغة الصلاة لكل مسلم ، وهي لغة الحضارة والزمن القادم يرفض أية لغة سواها إن نحن بقينا نعتز بها ومع ذلك فهي خالدة بخلود القرآن ، ويجب علينا تعلمها والدفاع عنها من أي دخيل يحاول أن يقلل من شأنها وأن يسلك طريقا غيرها من الذين يدّعون الطور ومسايرة الركب الحضاري ولو على حساب اللغة والدين ، ومن واجبنا نحن العرب أن نحرص على استخدامها فيما بيننا وخاصة في المؤسسات التعليمية كالجامعات والكليات المختلفة لأنها رابط عربي وثيق .
وعلينا أن ننتبه من الدعوات المعاصرة والتي تنادي باستخدام اللغة العامية المحلية أو خلط العامية بالعربية كما هو الحال عند بعض الشعراء المتأثرين بالفكر الاشتراكي من مدعوا الحداثة وغيرها ، أو أولئك المستسلمين لأحوال سواد الناس والذين يمزقون العربية راكبين غمار الشعر النبطي مدعين أن الناس اليوم تحبه والجمهور كلهم عليه ومعه .
إن هذا الكلام هو الاستسلام بعينه والتخلي عن المبادئ والقيم وضعف الشخصية وعدم الثقة بالنفس وإلا كيف ننزل إلى أسفل سافلين بحجة الجاهلين والذين لا يهمهم من سماع الشعر غير الضحك وترقيص الأجساد والأسنان وهم عن العربية وحبها بعيدون بعد المشرق عن المغرب. فأين حبنا للعربية فلو أحببنا العربية لما تنازلنا عنها من أجل عامة الناس ومن أجل الذين لا صلة لهم بالأدب وتذوقه.
فهل عرفنا قدر العربية وأعطيناها كلنا لتعطينا بعضها .
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي