مع أن التقدم الطبي والتكنولوجي قد حقق قفزات هائلة من النجاحات المستمرة خلال القرن الماضي إلا أن الأرقام الواردة من منظمة الصحة العالمية تظهر بجلاء حجم المعاناة التي يتعرض لها ملايين البشر يوميًا جراء تعرضهم للإصابة بالأمراض الوبائية والمعدية، فهناك أكثر من ثلاثة عشر مليون شخص يموتون سنويًا نتيجة هذه الأمراض، والأمر الأكثر فزعًا هو أن نصف هؤلاء من الأطفال.
ترى هل لتغير نمط الحياة الذي يسود الآن وما يرافقه من تلوث في البيئة والنمو الكبير في عدد السكان دور في ذلك؟ وإن كان هذا هو السبب، فكيف لنا أن نقي سكان المعمورة من هذه الأوبئة الفتاكة ونمنع تجذرها؟
في السطور التالية أضواء على الأمراض المعدية.. أسبابها أنواعها، وطرق انتقالها، والأهم من ذلك كيف يمكن لنا الوقاية منها. فإلى ما قاله الخبراء والباحثون، ولنبدأ.
الأمراض الوبائية..ماهي؟
يعرف د. محمد حمدان الزهراني (استشاري الأمراض المعدية) الأمراض المعدية بأنها تلك الناتجة عن انتقال الميكروب أو الطفيل المسبب للمرض من شخص مصاب أو حامل للمرض إلى الشخص السليم وهو ما يؤدي إلى إصابته بالمرض. ويضيف د. الزهراني أنه وبرغم التطور في مجال مكافحة الأوبئة وتوفر المضادات الحيوية إلا أن الكثير من المجتمعات ما زالت عرضة للإصابة بأمراض جديدة أو عودة بعض الأمراض التي كانت نادرة الحدوث.
أما بالنسبة لمصادر العدوى وانتقالها من شخص لآخر فهي متعددة وأهمها:
ـ الشخص المصاب أو الحامل للمرض.
ـ حيوانات مريضة أو مصابة بأمراض مشتركة بين الإنسان والحيوان.
ـ البيئة المحيطة بالإنسان بما تشتمل عليه من الطعام والشراب الملوث بالميكروبات المسببة للمرض.
ويسرد د. الزهراني أنواعًا عدة للأمراض الوبائية، فكما يقول إن أنواعها كثيرة ويصعب حصرها، فلربما تكون بكتيرية أو فيروسية أو طفيلية أو فطرية، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
ـ الأمراض البكتيرية: مثل الدفتيريا والتيتانوس والدرن والحمى المالطية.
ـ الأمراض الفيروسية: كالإيدز، التهابات الكبد، الحصبة، شلل الأطفال، ومرض حمى الوادي المتصدع.
ـ الأمراض المعدية التناسلية: مثل الإيدز والسيلان والزهري.
ـ الأمراض المعدية المحجرية، والتي تؤدي إلى حدوث الأوبئة في حال عدم التمكن من السيطرة عليها في أماكن حدوثها مثل: الحمى الصفراء، الجمرة الخبيثة، الحمى الراجعة، الطاعون والكوليرا. وبعضها لو انتشر لفتك بالآلاف لا قدر الله.
انتشار سريع..
من جهته يشير د. محمد بن حسن الجفري مدير عام الإدارة العامة للأمراض الطفيلية والمعدية بوزارة الصحة إلى أن المرض يعتبر وبائيًا حين ينتشر بأعداد كبيرة وأكثر من المتوقع، حيث يمكن التعرف على ذلك بالرصد والمراقبة الوبائية للأمراض في المراكز الصحية والمستشفيات والتبليغ عنها حال وقوعها. مشيرًا إلى أن أهم ما يميز الأمراض الوبائية هو انتشارها السريع، وهذا مرده إلى قصر فترة الحضانة الممتدة بين دخول المرض إلى الجسم وحدوث الأعراض. ويمكن أن يأتي المرض من أي مكان بالعالم، خصوصًا مع توفر وسائل السفر والاتصال السريعة كون العالم أصبح قرية صغيرة.
ويضيف الجفري أن مكمن خطورة الأمراض الوبائية يتمثل في الانتشار السريع وفي بعض الأحيان تكون قاتلة أو تتسبب في بعض الإعاقات المستديمة على الإنسان المصاب بها.
ولكن كيف يمكننا التعرف على الأمراض الوبائية دون سواها؟ لعل هذا السؤال يخطر على بال الكثيرين منا. ويرد على ذلك د. محمد غياث الحلواني (استشاري الأمراض الباطنية) قائلاً: إن أغلب الأمراض الوبائية تترافق مع وجود الحمى والتعب على الشخص المصاب، إضافة إلى إجراء الدراسات الدقيقة ومعرفة مدى انتشار الأمراض الوبائية ومراقبة أي زيادة أو تطور غير طبيعي في حركتها، وكذلك دراسة تاريخ الحالة المرضية والأعراض المصاحبة للمرض، وهل هناك إصابات أخرى في الوقت نفسه أو في خلال أوقات متقاربة. يضيف د. الحلواني ضرورة القيام بفحص المريض وإجراء التحاليل المخبرية اللازمة، كذلك أخذ المعلومات من المريض في حال سفره إلى منطقة موبوءة أو التأكد من مخالطة المريض لأشخاص مصابين بمرض ما معد، أو المشاركة في تناول طعام أو شراب، لأن من شأن التعرف على ذلك مساعدة الطبيب في تشخيص الحالة وعلاجها قبل فوات الأوان.
نماذج حية..
ومن أمثلة الأمراض الوبائية التي يمكن أن تصيب أناسًا كثيرين ويمكن أن تنتشر بسرعة نقدم نموذجين أولهما مرض حمى الوادي المتصدع، والآخر الحماق أو جدري الماء، والأخير يعد أكثر الأمراض الوبائية انتشارًا هنا في المملكة. وسوف نعرّف كل مرض على حدة.
فبالنسبة لمرض الوادي المتصدع تعرف خبيرة الصحة ندا مسعودي هذا المرض بقولها إنه عبارة عن نوع من الحمى الحادة يسببها فيروس ينتقل بوساطة حشرة البعوض وينتشر بكثرة في مناطق شرق إفريقيا وجنوبها، حيث إنه يصيب الأبقار والماعز والجمال، وظهوره بين الماشية يمكن أن يقود إلى وباء يصيب البشر المعرضين للتعامل مع الحيوانات المريضة. وحول انتقاله إلى الإنسان تقول مسعودي إنه يمكن أن ينتقل بثلاث طرق، أولاها عن طريق البعوض عندما يلسع البعوض الحيوان المصاب ويمص دمه، ثم يلسع الإنسان وينقل الفيروس إليه، أو من خلال أي تماس دموي كوجود الجروح والتعامل مع سوائل الدم، وأخيرًا بوساطة انتشار الرذاذ باستنشاق الأبخرة المتطايرة من الحيوانات المصابة أو عينات المختبر التي تحتوي على الفيروس.
وحول أعراض الوادي المتصدع تشير مسعودي إلى أنها تتمثل في حرارة مرتفعة وضعف عام وخمول بالجسم، إضافة إلى آلام في العضلات والظهر مع دوار وعدم اتزان يصاحبه حدوث قيء، وفقدان كبير للوزن، حيث يمكن أن تتطور هذه الأعراض إلى حمى ونزف شديد قد يؤدي إلى صدمة أو التهاب وتضخم في الدماغ وهو ما يؤدي إلى الصداع أو الغيبوبة أو الصرع، أو إصابة بالعين تؤدي إلى فقدان مزمن للبصر، مشيرة إلى أنه في الغالب يشفى المريض خلال يومين إلى أسبوع من بداية المرض وفي أحيان قليلة يؤدي إلى الوفاة. وينصح للوقاية منه بمكافحة البعوض والحشرات الماصة للدم وتجنب لسعتها، إضافة إلى ضرورة ردم المستنقعات والمياه الراكدة التي تزيد من انتشار البعوض، والتخلص من المواشي المصابة، ومحاولة الامتناع عن النوم خارج المنزل أو في المزارع المكشوفة قدر الإمكان.
الجدري في المملكة..
أما المرض الثاني والذي يعد أكثر انتشارًا في السعودية فهو جدري الماء أو ما يطلق عليه الحماق فإن له اسمًا آخر هو «العنكز» وترى د. ميرفت معاد اختصاصية أمراض باطنية أن هذا المرض ينتشر في جميع أنحاء العالم وهو ينجم عن فيروس الحماق، ويصيب الأطفال دون سن عشر سنوات، كما أنه من الممكن أن يصيب الكبار، موضحة أن جدري الماء ينتشر على شكل أوبئة ويحدث غالبًا بين شهري يناير ومايو، حيث إن إصابة أحد أفراد العائلة تؤدي بالنتيجة إلى إصابة 90% من الأشخاص المخالطين له الذين لم يصابوا سابقًا بالمرض. وينتقل فيروس الجدري من شخص لآخر عن طريق التماس المباشر أو العطاس والسعال، وتبلغ فترة الحضانة تقريبًا أسبوعين، حيث تبدأ الأعراض السريرية بالظهور كالإرهاق ونقص في الشهية، ثم ينتشر الطفح على الوجه والأطراف وقد تصاب الأغشية المخاطية في الفم ويؤدي إلى حدوث تقرحات ويبدأ المريض بالشكوى من حكة شديدة.
وحول طرق العلاج من المرض تنصح د. ميرفت بإعطاء الطفل المصاب دواء خافضًا للحرارة كالإيبوبروفن أو السيتامول، ولا يجوز إعطاء الأسبرين أو أحد مشتقاته أبدًا لأن ذلك يؤدي إلى إمكانية حدوث إصابة شديدة في الكبد قد تنتهي بالفشل الكبدي أو ما يطلق عليها «متلازمة إي»، وتضيف أن هذا المرض شديد العدوى وينتشر بسهولة في أماكن التجمعات خصوصًا في دور الحضانة والمدارس، لذلك لابد من عزل الطفل المصاب مباشرة لمدة أسبوع، ويجب مراقبة المخالطين للمريض لمدة أسبوعين لئلا تظهر حالات جديدة، كما يتوفر في الأسواق حاليًا لقاحات مختلفة للمرض. ومن الجدير ذكره أن الإصابة بجدري الماء تترك مناعة دائمة للجسم.
سهولة الانتقال..
ومن الملاحظ أن المرض الوبائي ينتشر بسرعة دون سواه من باقي الأمراض، ويفسر ذلك د. محمد الحلواني بالقول إن ذلك عائد لسرعة وسهولة انتقال العوامل من الشخص المصاب أو الحامل للمرض إلى الشخص السليم، إضافة إلى قوة تأثير هذه العوامل المسببة والناقلة للمرض سواء كانت فيروسات أو جراثيم. وحول طرق انتقال العدوى يقسم د. الزهراني ذلك إلى قسمين: الطرق المباشرة والتي يتم خلالها انتقال الميكروب من شخص لآخر دون وسيط، وذلك عن طريق التنفس والرذاذ المتطاير كما في حالات الإنفلونزا، الحمى الشوكية، الدرن وجدري الماء، كما تنتقل الأمراض عن طريق الملامسة مثل بعض الأمراض الجلدية أو عن طريق الاتصال الجنسي كما هي الحال في الأمراض التناسلية.
أما طرق العدوى غير المباشرة فيضيف د. الزهراني أن حدوثها يتطلب وجود وسيط حي بين مصدر العدوى والمصاب كالبعوض والذباب كما في حالات الملاريا والدوسنتاريا، أو من خلال وسيط غير حي مثل الطعام والشراب أو الأدوات الملوثة التي تسبب الإصابة بالمرض كالتيفوئيد والالتهاب الكبدي.
من جهته يبين د. الحلواني أن الأمراض الوبائية تأتي من خلال الميكروبات المنتشرة في الهواء وتنتقل بوساطة الجهاز التنفسي حين تدخل العوامل الممرضة مع الرذاذ المنتشر في المريض بالكلام أو العطاس أو السعال إلى الجسم السليم، ومنها ما يأتي عبر الجهاز الهضمي، أو عن طريق لدغ جلدي أو من خلال الدم وسوائل الجسم.
تدابير وقائية..
وينصح الخبراء والمختصون باتخاذ مجموعة من التدابير التي تحول دون التعرض لهذه الأمراض وانتشارها، وفي هذا يقول د. الزهراني إن أفضل تلك الطرق تتمثل في الآتي:
أولاً: أخذ التطعيمات إذ إنه من السهولة بمكان منع حدوث المرض وذلك بأخذ التطعيمات اللازمة، فهناك عشرة أمراض خطيرة يمكن منع حدوثها بإذن الله، شريطة أخذ التطعيمات الأساسية للأطفال وهي شلل الأطفال، الحصبة الألمانية، الدفتيريا، الكزاز، السعال الديكي، المستديمة، والتهاب الكبد B وغيرها.
ويضيف د. الزهراني أن هناك تطعيمات أخرى يمكن إعطاؤها للكبار والصغار إذا كانوا معرضين للمرض أو مضاعفاته كالتهاب الكبد والإنفلونزا الفيروسية والتهابات الرئة، مشيرًا إلى أنه يفضل تجنب السفر إلى الأماكن الموبوءة وأخذ الاحتياطات الضرورية وتجنب الاحتكاك أو التعامل مع الحيوانات المصابة أو الحاملة للمرض.
كذلك الاهتمام بالنظافة العامة إذ إن التقيد بالنظافة الشخصية أمر ضروري للوقاية من المرض. أيضًا يؤكد د. الزهراني أهمية الحفاظ على نوعية الطعام والشراب ونظافتهما، كما أن المضادات الحيوية تعتبر سلاحًا ضد الكثير من الأمراض المعدية، ولكن على المريض ألا يستخدم هذه المضادات إلا عند الضرورة وبعد استشارة الطبيب وإلا فقد تظهر المقاومة أو المناعة ضدها، أو قد تغير الجراثيم خصائصها بحيث لا تتأثر أو تموت من هذا الدواء.
مكمن الخطورة..
وحول مدى خطورة الأمراض الوبائية يؤكد د. الحلواني أن مكمن الخطورة يتأتى من سرعة انتشار هذه الأمراض وانتقالها من شخص لآخر فتصيب بالتالي عددًا كبيرًا من الناس، فمنها ما هو خطير على حياة الإنسان كالحمى الشوكية والتهابات الكبد والإيدز، ومنها ما هو بسيط لا يشكل خطورة على حياة الإنسان كمرض جدري الماء والحصبة الألمانية التي تكمن خطورتها فقط في حال إصابة الحامل وإحداث تشوهات عند الجنين.
من جانبها تشير الأستاذة تغريد سمان مديرة التوعية الصحية بمستشفى قوى الأمن إلى أن من أكثر الأمراض شيوعًا والتي تصيب الإنسان وخصوصًا في فصل الصيف التسمم الغذائي الذي يصيب الإنسان نتيجة تناول طعام أو ماء ملوث يحتوي على ميكروبات أو سموم تفرزها بعض الجراثيم أو المواد الكيماوية، حيث تظهر أعراضه بعد ساعات أو أيام عدة على شكل غثيان ومغص وإسهال، حيث تنتقل الجراثيم مباشرة من مصدر العدوى إلى الغذاء أو من خلال الأواني والأدوات الملونة. وتضيف السمان أن أفضل طرق الوقاية من التسمم الغذائي تتمثل في اتباع النظافة العامة وغسل الخضراوات والفواكه جيدًا، وحفظ الأطعمة سريعة الفساد في الثلاجة كاللحوم والدجاج والحليب ومشتقاته، وطهي الطعام بصورة جيدة، والتأكد من تاريخ صلاحية الطعام.
ويبقى السؤال المطروح هو أين دور الجهات ذات العلاقة في مكافحة الأمراض الوبائية التي قد تنتشر هنا في المملكة؟ يجيب عن ذلك د. محمد الجفري قائلاً: إن وزارة الصحة تبذل جهودًا كبيرة في هذا المجال، حيث إن هناك مراقبة وبائية مستمرة داخليًا بمناطق المملكة ولما يحدث في الخارج من خلال متابعة النشرات الوبائية التي تصدرها منظمة الصحة العالمية أسبوعيًا مع اتخاذ الإجراءات الوقائية ووضع ضوابط وشروط الدخول إلى المملكة خصوصًا من الدول الموبوءة ببعض الأمراض حتى لا تنتقل إلينا، مشيرًا إلى أن من أكثر الأمراض الوبائية خطورة في المملكة هو الحمى المخية الشوكية التي قد تنتشر بسرعة وخصوصًا في مواسم الحج والعمرة حيث تتوفر الظروف الملائمة لها.