هناك حوار حول الطريق الذي ستأخذه مصر بعد الثورة، هل هو طريق إيران أم طريق تركيا؟ نفر من المتفائلين يرى الطريق مؤديا إلى تركيا ودولة رجب طيب أردوغان وجماعته، أما أنا فأرى أن الطريق مؤد إلى إيران ولكن بمسحة تخلف بيّن. أطرح هذا وأعرف أن ما سأعرضه هنا لن يكسبني الأصدقاء. كما أنني أعرف أن قارئي العربي لديه أوهام عن مصر وهي أوهام نحبها نحن كمصريين ويحبها العرب أيضا، لأنها أوهام تدغدغ فينا ما نتمناه، مثل مصر أم الدنيا ومصر الحضارة، ومصر منارة العلم والإسلام المستنير، ومصر قائدة العالم العربي، والشقيقة الكبرى. وما يحدث في مصر لا بد أنه مؤشر لما سيحدث للعرب من أمور، ولكنها تبقى أوهاما في النهاية لأنه ليس هناك ما يؤيدها في الواقع.
بعد ستين عاما من ثورة يوليو 1952، التي يتغنى العرب بقيادتها للمشروع العربي، ما نراه أمامنا الآن وواضح وضوح الشمس هو مجتمع عالم ثالث متخلف بكل المعايير المعروفة. ما هذا بجلد للذات أو كراهية لوطني، بل هو أصل الحب أن تقول للحبيب ما فيه، وهذا هو وطني فيه 40% من ساكنيه أميون، وأن مستوى دخل الفرد فيه هو الأدنى في العالم، وأن نسبة أمراض الفشل الكلوي والكبدي الوبائي هي الأعلى في العالم، وأن عاصمته من أكبر العواصم العالمية تلوثا، وأن الرعاية الصحية فيه من الأسوأ في العالم، أما أهل هذا الوطن فهم أكثر الناس تفاؤلا في العالم، لأن إنسانا أصابته كل هذه المصائب وما زال يبتسم ليستحق جائزة نوبل في التفاؤل.
أنا شخصيا - وحتى هذه اللحظة - لا أستطيع سبر أغوار حب المصريين لبلدهم رغم هذا الفقر الشديد، ورغم أن أطفال الشوارع وأهل المقابر وصل عددهم إلى أكثر من مليوني نسمة، أي أن هذا التعداد - وبعد جيلين من التزاوج - سيصل إلى نسبة 10 ملايين أو 10% من تعداد السكان. إن كتلة بشرية كهذه وبعد عشر سنوات قد تقطع أوصال البلد بالنهب والبلطجة والبحث عن لقمة العيش بكل الطرق الشريفة وغير الشريفة. هذا هو الحال. الوهم عن مصر جميل، مصر الحضارة والتعليم وأم الدنيا إلى آخر كل هذا، ولكن الحقيقة مُرة كالعلقم، والمستقبل مظلم كالليل وكسواد شعر بنات الصعيد وعيونهن. فكيف للطريق التركي أن يظهر في ظل كل عوامل التخلف الطاغية على المجتمع؟ تركيا لم تكن مؤشراتها هكذا لا عندما ظهر نجم الدين أربكان ولا عند مجيء أردوغان. يبقى أمامنا الطريق الإيراني فقط، ومع ذلك ليس لدينا مفكرون إسلاميون برجاحة وحرية الفكر التي تمتع بها إيرانيون مثل علي شريعتي. ورغم أن إسلاميي إيران يقرأون القرآن والسنة بلغة غير لغتهم فإن الكثيرين منهم وصلوا إلى حالة معقولة من التفكير المنطقي المنظم في حوارهم حول الدين والحياة العامة. أما عندنا في مصر فرموز الإسلام السياسي هم من محدودي المعرفة بدينهم وبحقائق بلدهم وبالعالم من حولهم، يعرفون من الدين فقه الحدود وبعضا من فقه المعاملات وليس أرشده منها، أما الفكر بمعناه الواسع فهم لم يتدربوا عليه في مدارس تعليمهم، ليس منهم من يعرف علاقة الإبستمولوجيا بالإنطولوجيا والمنهج، أو بكلام بسيط للعوام، لم يتدربوا على علم المعرفة، وعلاقته بأصول الأشياء وسبل التفكير العلمي ومناهجه المتعددة للوصول إلى نتائج أقرب إلى الحقيقة. نحن مجتمع لا ينتج المعرفة، وعندما يقتبس أو يقلد فهو لا يقلد بالطريقة التي تقتبس بها بعض الشركات ما تقوم به شركة "أبل" الأمريكية وتحسنه أو تضيف إليه، نحن نقلد في كل الأمور بسوقية وبتشويه متعمد. أعرف أن هذا الكلام يبدو عاما وتنقصه الأدلة أو الأمثلة، وأنا ليس لدي حرج من استخدام أمثلة بعينها أو ذكر أشخاص بعينهم، ولكن تقاليدنا الصحافية في العالم العربي لم تتسع حتى الآن إلى المناظرات الفكرية، فإعلامنا خجول وإعلام "طبطبة" على الأمور و"ضبضبة"، أو إعلام يتخيل أن له دورا وطنيا في المصالحات أو بناء الوطن، ولا يهدف إلى إثراء المعرفة.
خذ مثالا على هذا. وأنا أقرأ واحدة من الصحف المصرية الكبرى هذا الصباح والتي تصدرتها صورة لرئيس الوزارة عصام شرف مع البابا شنودة الثالث بابا الكنيسة القبطية، كتب تحتها "رئيس الوزراء في حوار ودي مع البابا"، ولا أعرف ما معنى هذا؟ فليس هناك صحف تكتب باللغات الحية تحمل عنوانا بهذا الشكل. الصحيفة تبحث عن المعلومة لتقول لنا ماذا دار في هذا الحوار، وهل البابا متمسك بمطالب المتظاهرين من الأقباط أم لا، أو هل الحكومة موافقة أم أن لديها تحفظات؟ ولكن لأن الصحيفة العريقة ترعرعت في أزهى عصور "الطبطبة" الإعلامية على رأي نانسي عجرم، فليس هناك في مخيلتها أو بين أبنائها من يتصور أن للصحافة دورا غير "الطبطبة".
مثال آخر. انظر إلى الوجوه التي تقدمت بأوراق الترشح لبرلمان الثورة. إنها ذات الوجوه التي كانت تتسيد المشهد أيام برلمان الاتحاد الاشتراكي وبرلمانات التخلف. في إيران كان للبازار أو للتجار دور كبير في الثورة، وصادر الإسلاميون الثورة بعد حين، لتصبح ثورة الخميني، ثم تدريجيا أصبحت ثورة الحرس الثوري وأحمدي نجاد ومن معه من شلة الرعناء. ومع ذلك بقي هناك خاتمي ورفسنجاني وعلي شريعتي، كل هؤلاء غير موجودين في مصر، فلا الطبقة التجارية لها مثقفون، ولا الأرستقراطية القديمة أنتجت مثقفا إسلاميا ذا وعي بمكانة ومقام الغزالي أو الطهطاوي أو الشيخ العطار أو علي عبد الرازق، الذي كان شريعتي زمانه. كل ما لدينا هم علماء يشبهون تاكسيات القاهرة وأتوبيساتها، شيء يؤدي الغرض ومحسوب علينا كتاكسي، ولكن من الممكن أن تضرب منا عجلة أو اثنتـــان ونحن فــــي الطريق إلى إيران.