ورغم الانتقادات السابقة ، إلا أن التطورات الأخيرة يبدو أنها حسمت الوضع على الأرض لصالح الشمال وهو الأمر الذي قد يدفع الحركة الشعبية لإعادة ترتيب حساباتها والتحرك لحل الأزمة بعيدا عن الضغوط الأمريكية والإسرائيلية .
فمعروف أن أبيي تشهد تصعيدا في أعمال العنف منذ استفتاء يناير/كانون الثاني الماضي بشأن انفصال جنوب السودان والذي صوتت خلاله غالبية ساحقة لصالح الانفصال ، حيث كان مقررا إجراء استفتاء أيضا حول مصير أبيي في يناير الماضي إلا أنه تم تأجيله بسبب الخلافات بين الشمال والجنوب حول من يحق له التصويت ، فبينما ترى الحركة الشعبية أن التصويت يجب أن يكون حكرا على قبائل دينكا نقوك الإفريقية ، يرى حزب المؤتمر الوطني الحاكم أن حق التصويت يجب أن يشمل كذلك قبائل المسيرية الرعوية ذات الأصول العربية التي تقضي عدة أشهر من العام في أبيي.
وبالنظر إلى أن أبيي هي منطقة غنية بالنفط وفي صلب نزاع بين الشمال والجنوب من أجل الوصول إلى المياه ، بجانب الخصومات القبلية التاريخية بين قبائل المسيرية العربية التي يدعمها الشمال وقبيلة دنكا نقوك الإفريقية التي يدعمها الجنوب ، فقد عمدت واشنطن منذ توقيع اتفاقية 2005 لتأجيل وضع حل لها لضمان ابتزاز الشمال من ناحية والإسراع بضمها للجنوب فور التصويت لصالح الانفصال من ناحية أخرى .
وأمام ما سبق ، لم يكن مستغربا أن يتصاعد التوتر في أبيي منذ إجراء استفتاء تقرير مصير الجنوب ، بل واستفزت الحركة الشعبية الشمال صراحة عندما أعلنت مؤخرا أن أبيي ستكون ضمن دستور دولة الجنوب الوليدة رغم عدم التوصل إلى حل نهائي بشأنها .
ويبدو أن حكومة البشير أدركت جيدا أن واشنطن وتل أبيب تضغطان على الحركة الشعبية لفرض أمر واقع في أبيي ولذا سارعت لإجهاض هذا الأمر مبكرا مثلما فعلت في السابق عندما رفضت صفقة ضم المنطقة المتنازع عليها إلى الجنوب مقابل حوافز اقتصادية تقدمها الحركة الشعبية للشمال.
فخ الصفقة الشاملة
وكان القيادي بالحركة الشعبية لوكا بيونق كشف في 28 أكتوبر الماضي أن تلك الصفقة هي أمريكية بالأساس وتقوم على ضم أبيي إلى الجنوب مقابل حوافز اقتصادية تقدمها الحركة الشعبية للشمال.
وتابع بيونق " المقترح الأمريكي يدعو لضم أبيي إلى الجنوب بموجب مرسوم رئاسي إذا فشل الجانبان في إقامة الاستفتاء على مستقبل المنطقة في موعده ".
وأضاف " جنوب السودان وافق على منح الشمال مجموعة من المحفزات المالية للقبول بضم أبيي ، هذه المحفزات يمكن أن تشمل قرضا من دون فوائد تقدمه حكومة الجنوب لتعويض نصف عائدات البترول التي سيفقدها الشمال في حال الانفصال وإنشاء صندوق لدعم قبائل المسيرية ومنحهم بعض حقوق المواطنة في الجنوب ، لقد اقترحت الولايات المتحدة أن يكون للمسيرية جنسية مزدوجة وقد قبلنا الاقتراح " .
واستطرد القيادي بالحركة الشعبية قائلا :" أبيي يمكن أن تكون نقطة اشتعال بسبب عدم تحقيق السلام ، هذا المقترح يخدم السلام".
ورغم أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم سارع حينها لرفض الصفقة السابقة ، إلا أنها كشفت بوضوح أبعاد المخططات الأمريكية والإسرائيلية بشأن أبيي خاصة بعد اصرار واشنطن على إجراء استفتاء جنوب السودان وتجاهل الشق الثاني في اتفاقية السلام وهو استفتاء أبيي ، حيث أنه من أهم بنود اتفاقية السلام الشامل التي وقعها شريكا الحكم في السودان في يناير 2005 برعاية أمريكية وإفريقية إجراء استفتاء على تبعية منطقة أبيي واستفتاء حول تقرير مصير جنوب السودان في 9 يناير/ كانون الثاني 2011 .
فواشنطن سارعت لحسم النزاع القائم بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم في الشمال والحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكمة في الجنوب عبر خدعة الصفقة الشاملة التي تضمن تبعية أبيي للجنوب دون إجراء أي استفتاء وحرمان الشمال بالتالي من ثرواتها وخاصة النفطية منها ، حيث أن حكومة جنوب السودان تحصل وفقا لاتفاقية السلام على 50 في المائة من عائدات البترول المنتج في الجنوب والتي تبلغ حوالي 470 ألف برميل يوميا لكن كل هذه العائدات ستؤول إلى الجنوب بعد الانفصال ، وفي حال تبعية أبيي للجنوب أيضا ، فإن تلك العائدات سيتم مضاعفتها وهو ما سيعود بالنفع على أمريكا وإسرائيل .
وبعد أن رفض حزب المؤتمر الوطني الحاكم الصفقة الشاملة وأكد قادة قبائل المسيرية اصرارهم على التصويت في الاستفتاء على مستقبل منطقة أبيي واستعدادهم للحرب إذا اقتضى الأمر ، سارعت واشنطن وتل أبيب للضغط على الحركة الشعبية للإسراع بفرض أمر واقع قبل إعلان الانفصال رسميا ، إلا أن الرئيس البشير كان له رأي آخر وسيطر الجيش السوداني على أبيي بالكامل في 21 مايو .
وعلى عكس مخاوف البعض من تجدد الحرب ، فقد يدفع مثل هذا التطور الشمال والجنوب للإسراع بوضع حل نهائي لقضية أبيي قبل الانفصال رسميا وفي إطار الدولة الواحدة بما يجنب السودانيين ما حدث بين إثيوبيا وإريتريا عندما أعلنت الأخيرة استقلالها عن أديس أبابا دون حسم بعض قضايا الحدود ، الأمر الذي أدى إلى اندلاع حرب بينهما فيما بعد .
ويبدو أن تردي الأوضاع الاقتصادية في الشمال والجنوب تدفع أيضا في طريق الإسراع بحل الأزمة سلميا ، هذا بجانب أن التعويل على دعم واشنطن وتل أبيب لن يفيد الحركة الشعبية كثيرا لأنها بصدد بناء دولة جديدة وتحتاج للسلام والاستقرار ودعم الشمال ، هذا بجانب أن الشمال فرض أمرا واقعا جديدا في أبيي ولا يمكن تغييره بسهولة ، كما أن نتائج أية حرب جديدة غير مضمونة بالنسبة للجنوب خاصة وأن أمريكا غارقة حتى أذنيها في أفغانستان والعراق وتواجه أوضاعا اقتصادية سيئة .
ويبدو أن جعل أبيي منطقة تكاملية بين الشمال والجنوب بعد الانفصال أو التعامل معها كمشكلة اجتماعية وقبلية بالأساس وليست سياسية هي خيارات قد تشكل حلا مقبولا لكافة الأطراف بل وقد تمهد لعودة السودان بلدا موحدا مرة أخرى في المستقبل .
تاريخ من التوتر
ولعل إلقاء نظرة على تاريخ التوتر في أبيي يرجح صحة ما سبق ، فهي منطقة استراتيجية تقع بوسط السودان على جانبي الحدود غير الواضحة بين الشمال والجنوب وتعد نموذجا مصغرا لجميع الصراعات التي قسمت السودان لعشرات السنين ، حيث أنها مزيج من التوترات العرقية والحدود الغامضة والخلافات بشأن المياه والنفط.
وخاض الشماليون والجنوبيون قتالا عنيفا بشأنها خلال عقود من الحرب الاهلية واستمرت الاشتباكات بينهما حتى بعد إبرام اتفاق السلام عام 2005 الذي أنهى الحرب ونص على إجراء الاستفتاء.
وتحتوي أبيي على أراض غنية للرعي وموارد مياه كما أصبحت تضم بعد عملية إعادة ترسيم حديثة لحدودها حقل دفرة النفطي المهم وهو جزء من قطاع تديره شركة النيل الاعظم للتبرول وهي عبارة عن "كونسورتيوم" تقوده الشركة الصينية الوطنية للبترول ، كما أن لها أهمية عاطفية ورمزية واستراتيجية ، حيث تنتمي عدة شخصيات بارزة من الحركة الشعبية لتحرير السودان المهيمنة على الجنوب إلى المنطقة ويعتبر الكثير من الجنوبيين أن الكفاح من أجل أبيي رمز لكفاحهم الطويل ضد ما يعتبرونه قمعا.
ويستخدم عرب المسيرية أبيي لعدة أشهر في العام وعرب المسيرية هم جماعة مسلحة جيدا كانت تمد الخرطوم بميليشيات بالوكالة خلال الحرب بين الشمال والجنوب.
وتؤكد المسيرية أن لها حقوقا ترجع إلى قرون مضت في استخدام الأراضي من أجل ماشيتها ، هذا فيما تشدد قبيلة الدينكا نقوق التي ترتبط بصلات عرقية بالجنوب على حقوقها التاريخية هي الأخرى في أبيي .
والوضع الحالي لأبيي هو وضع إداري خاص إذ تحكمها إدارة مؤلفة من مسئولين من الحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب المؤتمر الوطني الذي يقوده الرئيس عمر حسن البشير وتوجد فيها أيضا قوة مشتركة تتكون من جنود وشرطة من الشمال والجنوب ، إلا أنه بعد سيطرة الجيش السوداني عليها في 21 مايو تم إنهاء هذا الوضع .
وأثبتت قضية أبيي أنها مستعصية إذ ظلت بلا حل في اتفاق السلام الشامل عام 2005 الذي أنهى الحرب بين الشمال والجنوب ، وتلقى السكان وعدا بإجراء استفتاء في التاسع من يناير / كانون الثاني 2011 على ما إذا كانوا سينضمون إلى الشمال أم الجنوب وظلت الخطط لاجراء الاستفتاء متعثرة بعد سلسلة من النزاعات المريرة معظمها بسبب وضع حدود أبيي وبشأن من يعتبر من سكان أبيي وله الحق في التصويت.
واقتربت محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي من حل المشكلة الأولى عام 2009 حين أمرت باعادة ترسيم حدود أبيي لتعطي عدة حقول نفط رئيسية للشمال وقبلت الحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب المؤتمرالوطني بالحكم لكن المسيرية رفضوه ، قائلين إنه يضع الكثير من الأراضي التي يستخدمونها في الرعي داخل أبيي وقاوموا جهودا رسمية لترسيم الحدود
الجديدة.
وما زالت قبيلة الدينكا نقوق والمسيرية على خلاف بشأن من يحق له التصويت وتقول قبيلة الدينكا إن عددا قليلا من أصحاب المتاجر المستقرين من المسيرية هم الذين يعتبرون سكانا ، فيما يطالب المسيرية بحقوق تصويت مساوية للدينكا وهو الأمر الذي يجعل منهم أغلبية على ما يبدو ولذا يماطل الجنوب في إجراء الاستفتاء .
وفي غياب استفتاء منفصل لأبيي ، وعد زعماء الشمال والجنوب بالتوصل إلى تسوية أخرى مدعومة بوساطة الاتحاد الإفريقي وواشنطن ، إلا أنهم رفضوا اقتراح تقسيم أبيي مناصفة.
وهدد سكان في أبيي بإجراء استفتاء خاص بهم إذا لم يجر الاستفتاء الرسمي لكن هذا لم يحدث بعد.
ومن شأن عقد تسوية بشأن أبيي إزالة حجر عثرة ضخم في طريق عملية السلام بالسودان والسماح للجانبين بالتركيز على قضايا أخرى لم تحل وعلى الدرجة نفسها من الأهمية كاقتسام عائدات النفط بعد الانفصال.
وبصفة عامة ، فإنه هناك من المؤتمر الوطني والمسيرية من يتهم الحركة الشعبية بتسييس قضية أبيي لأن عددا من قيادتها من الدينكا نقوك وبالتالي فهم يريدون دعما قبليا لهم بضم المنطقة للجنوب عبر تصويت الدينكا وهو ما يخالف وثائق تاريخية وجغرافية تثبت قدمهم وأحقيتهم بالمنطقة.
أبيي عربية
ويؤكد الأمير الصادق حريكة عز الدين أمير المسيرية الزرق أن جده أبو نفيسة يمثل الوجود التاريخي للمسيرية في المنطقة التي عرفت باسم أبيي ، وأضاف في تصريحات لقناة "الجزيرة" مؤخرا أن جده -الذي يوجد جسر باسمه حاليا في المنطقة- دخل المنطقة مع الدفعة الأولى بقيادة حمدان أبو هزلة عام 1765.
وأكد هذا الكلام أيضا الأمير حمدي الدودو -أمير المزاغة أحد بطون المسيرية- قائلا إن الوثائق المصرية والتركية والبريطانية والسودانية تؤكد ملكية المسيرية لهذه الأرض قبل ظهور الدينكا نقوك بـ140 عاما الذين كانوا في ثلاث مناطق تقع جنوب بحر العرب في ولايتي بحر الغزال "كير كما يسميه الدينكا نقوك" والوحدة بجنوب السودان حاليا.
وقال إنه عندما اندلع نزاع مسلح بين الدينكا والنوير نزحت الأولى من جزيرة "الزراف" إلى "تونق ليت" ثم إلى جنوب كردفان،بسبب المعاملة الطيبة التي وجدوها فيها من المسيرية واستقر بهم المقام ثم ما لبث الضيف أن بدأ يعمل على إخراج صاحب البيت، على حد تعبيره.
ومن جانبها ، قالت الدكتورة خديجة آدم وهي ناشطة سودانية ولها أطروحة دكتوراه عن منطقة أبيي إن منطقة أبيي هي التي تحد غرباً بجنوب دارفور، وجنوباً بشمال بحر الغزال، وشرقاً بأعالي النيل، وهي تمثل الجزء الجنوبي لدار المسيرية، وهي منطقة سافانا غنية يتخللها بحر العرب والرقبة الزرقاء، وأم بيورو وهي تقع داخل حدود مجلس ريفي دار المسيرية وفق حدود السودان في عام 1956.
وأضافت أن وصول دينكا نقوك لهذه المنطقة بحسب المصادر البريطانية كان نتيجة لاستضافة ناظر المسيرية علي الجلة لناظر دينكا نقوك أروب بيونق الذي استجار به لما لاقاه من حرب وعدم استقرار بينه وبين قبائل النوير التي نازعته في شمال بحيرة نو بشمال بحر الغزال، وهو ما جاء أيضا في التقرير السنوي لمدير مديرية جنوب كردفان مستر كونيل عام 1905.
وفي السياق ذاته ، أكد رئيس الجبهة الديمقراطية بجنوب السودان البروفيسور ديفد ديشان أن المسيرية هم الأقدم تاريخيا وجغرافياً بالمنطقة وأن الذين خلقوا المشكلة هم أبناء دينكا نقوك في حكومة الجنوب، مشددا على ضرورة قيام المسيرية والدينكا نقوك بحل المشكلة وحدهما.
وبصفة عامة ، يجمع كثير من المحللين والمراقبين على أن للقبيلتين تاريخ مشترك وآليات خاصة لحل القضايا بينهما منذ توقيعهما على اتفاق إخاء عام 1905، معربين عن خشيتهم من تفجر الوضع إذا تدخلت السياسة بمصالحهما الخاصة .
المصدر : http://www.moheet.com/show_news.aspx?nid=471071&pg=2